في رحاب أحمد بن عبد الله التنوخي المكنى بابي العلاء :
المعري لحظة تاريخية فارقة في الفكر العربي الناقد،وقدرة عجيبة على تشكيل النص العجيب المتمرد على واقعه وعلى صاحبه وحتى على نفسه ..النص الذي لا يأفل بريقه ابدا ..
النص الذي لا ينتهي ..النص الذي ولد ليكون صالحا لكل العصور
بل هو يمتد من اللحظة التي خرج منها إلى لحظة مفارقة لا تحد ولا تقاس ..
النص الذي يرتق الأرض بالسماء في رحلة عجيبه مقدارها الفكر والعقل والخيال الخصيب والمعرفة العميقة
هكذا كانت الرسالة الخالدة ..الرسالة التي أربكت الفكر الكوني برمته
رسالة الغفران ….
رسالة الغفران المشروع الثقافي الكبير. .رسالة جامعة لكل العلوم
تعثر على علم اللغة والشعر والأدب والدين ..
وتعثر على عقل المعري برمته متربعا بين ثناياها ..
وتعثر على المعري بصور مختلفة الكاتب والعالم والباحث والناقد ..
والقادر على تقمص سيكولوجيا شخصيات عصره بل شخصيات عديدة ومختلفة تظهر في صور شتى في المقام الذي وضعت له فهو المعري الكاتب /الناقد وهو ابن القارح موضوع الرسالة والمرتحل به في الجنان ..وهو رضوان خازن الجنان وهو شاعر من الشعراء الذين صنفهم بين الجنة والنار. .
وقد يتعدى ذلك إلى شخصيات أخرى مفارقة مثل الجن وابليس
أو بعض الحيوانات ..
وقد كتبت الرسالة بدافع من رسالة ابن القارح إليه التي عبر فيها عن مواضيع مختلفة منها موضوع التوبة والبحث عن الغفران
وهو موضوع لا ينتهي ابدا ..فهو معلق بالذات البشرية وأفعالها
ومسألة العقاب والثواب والوعد والوعيد والخير والشر والجنة والنار
وقد استطاع المعري أن ينقد بعمق ودراية كبيرة هذه المسألة الهامة في رحلة خيالية قام بها صاحب الرسالة في عالم السماء ..بين الجنة والنار
موظفا شخصية ابن القارح كتقنية فنية ليفتح المجال إلى عدة قضايا أخرى فرعية …
ومن أشد ما نقله المعري ومن أروعه قدرته على نقد مفهوم الجنة في تصور الباحثين عن الغفران والسالكين سبيل المتعة واللذة في تقربهم إلى الله ..
فينقل عربدة في الجنان في لوحة قصصية متخيلة تنقل خصومة بين الأعشى والنابغة الجعدي
نقطف منها مايلي :
“فيقول نابغة بني جعدة وهو جالس يستمع
يا أبا بصير أهذه الرباب التي ذكرها السعدي هي ربابك التي ذكرتها في قولك
بعاصي العواذل طلق اليدين
يعطي الجزيل ويرخي الازارا
فما نطق الديك حتى ملأ
ت كوب الرباب له فاستدارا
إذا انكب أزهر بين السقاة
تراموا به غربا أو نضارا
فيقول أبو بصير قد طال عمرك يا أبا ليلى واحسبك قد أصابك الفند* فبقيت على فندك إلى اليوم ؟
فيقول نابغة بني جعدة أتكلمني بمثل هذا الكلام يا خليع بني ضبيعة وقد مت كافرا وأقررت على نفسك بالفاحشة وأنا لقيت النبي _صلى الله عليه وسلم _ فأنشدته كلمتي التي أقول فيها
بلغنا السماء مجدنا وسناءنا
وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
فقال إلى أين يا أبا ليلى ؟فقلت إلى الجنة بك يا رسول الله !
فقال لا يفضض الله فاك..
وتتطور الخصومة بينهما حتى يقول الجعدي
اسكت يا ضل بن ضل ..فأقسم أن دخولك الجنة من المنكرات ..ولوجاز الغلط على رب العزة لقلت :إنك غلط بك.
ويثب نابغة بني جعدة على أبي بصير فيضربه بكوز من ذهب …….”
من خلال هذه اللوحة القصصية المتخيلة نلمس تلك القدرات العجيبة التي تميز هذا المفكر كما ندرك جرأة كبيرة على النقد بطريقة لم يسبق إليها. .بل لم يستطعها حتى سكان العصر الحديث ..
إذن المعري هو الفيلسوف الأكبر. .الفيلسوف الذي تميز بقدرات عديدة أهلته أن يكون بكل هذا التفرد والإبداع. .
نعم إنه المعري بكل ما يملك من دهشة وغرابة أربك ومازال إلى يومنا هذا الفكر الكوني برمته ..حتى أن دانتي الإيطالي أختلس منه الفكرة والأثر الذي وسمه بالكوميديا الإلهية ثم أنكر ذلك ..أنكر انه لم يعرف المعري ولم يقرأه يوما ..في حين أن ناقدا من بني جنسه أثبت العكس وأثبت أن دانتي اطلع على الرسالة مترجمة إلى القشتالية وأنه قد نهل منها الكثير ..
ومن لم يقرأ المعري لم يعرف لا الأدب ولا الفلسفة بل لم يعرف الحرف في جوهره ابدا
وان تقرأ المعري هو أن تتغلغل في وريد حرفه. .
وإن لم تفعل ذلك فستموت غريبا .. كأن لم تكن يوما…..!!
لو أدركت زمن رهين المحبسين لأنفقت العمر في خدمته….!!
_____________________
هوامش :
*الفند: الخرف وإنكار العقل من الهرم أو المرض /الخطأ في الرأي والقول .
—————————-
__[] المؤتمر الأوّل لرابطة المثقفين الأفارقة []____
* الإبداع الإفريقي المعاصر