على حسن السعدنى
يؤكد التاريخ القديم للإنسان أن الحياة في ذلك العالم القديم لم تكن سوى سلسلة متوالية من الحروب والمعارك بعضها كبير والآخر محدود فالحرب في الممالك القديمة كانت جزءاً لا يتجزأ أو ينفصل عن حياة تلك الشعوب غير أن هذه الحروب لم تكن لها منهجية معينة الهدف منها بلوغ غايات محددة، بل كانت حالة من انعدام الأمن والسلب والنهب وأخذ ما عند الآخر عن طريق قانون القوة الجبري ومن هنا نلاحظ أن هذه الحروب وفي تلك الفترة لم يكن لها فكرة أو تخطيط، أي أنها حروب بلا استراتيجية أو منهجية تحكم حركتها وبمرور الوقت والزمن لجأ الإنسان إلى الاستعاضة بأسلوب تعامله من صيد الحيوانات واستخدام تلك الأساليب في حروبه، مثل إعداد الكمائن والشراك والفخاخ الأرضية التي يتم حفرها وتغطيتها بالأشجار وكذلك الهجوم المفاجئ والمباغت والتطويق ومن هنا بدأ الإنسان يدرك تماماً كيف يتسنى له القيام بوجود فكرة معينة ومحورية تشكل إطاراً لعملية حركة منتظمة من أجل بلوغ هدف ما وكانت الفكرة في هذه الحروب هي (الاستراتيجية العسكرية) التي تعبر عن منهجية الحرب والقتال داخل ميدان المعركة وخارج الميدان وقد واكب تطور الاستراتيجية العسكرية تطور المجتمع الإنساني بصورة عامة وتطور أدوات الإنتاج والآليات هذا بالإضافة إلى تطور الأسلحة والتي كان لها الدور الحاسم والفاعل في تطور المفاهيم الاستراتيجية العسكرية القتالية كما يقول الجنرال الفرنسي أندرية بوفر (إن الفكرة هي التي تحكم توجه الاستراتيجية كما تحكم وتوجه في كل الأمور الإنسانية الأخرى غير أن هذه الفكرة هي في حد ذاتها فلسفة من نوع ما) ومن ملامح تلك الأفكار التي كان يستخدمها الإنسان في الحرب نشأ نوع من التطور في شؤون الحرب والقتال وفي حياة الإنسان بصورة عامة وارتقى الإنسان من الطور البدائي ليستقر في مجتمعات تمارس حرفتي الرعي والزراعة وإنشاء القرى وإحاطها بالموانع والتحصينات اللازمة حول المناطق التي استقر فيها وهنا أدرك الإنسان مكانة الأرض وأهميتها وبدأ الإنسان بالشعور بالاستقرار النفسي والذي هيأ له وجود الاستقرار العقلي والفكري ومن هنا كانت انطلاقة الإنسان في الحياة من خلال الأفكار التي توالت وصنعت كل هذه الحضارة الإنسانية. وذلك من خلال (الفكر الاستراتيجي العسكري) الذي يحاول وجود السلاح الأمثل والأفضل وتنظيم وتفعيل المحاربين بصورة تمكنهم من تحقيق النصر وتفادي الهزيمة وهنا تطورت الوسائل الهجومية والدفاعية ووسائل الحصار من السيف والدروع الى القوس الناري والمنجنيق وأصبحت الحرب عبارة عن مبارزة بين مجموعتين منظمتين وكانت المعركة هي التي تحدد مصير السكان وتوالت الحروب والاستراتيجية القتالية التي تقوم بدعم الفكر العسكري في درجة الحصول على أفضل السبل والوسائل والنتائج المتعلقة بشؤون الحرب والقتال.. ومضت مسيرة الحرب والاستراتيجية في التطور إلى أن ظهر السلاح الميكانيكي الذي أحدث بدوره نقلة نوعية في شؤون الحرب والقتال والحياة بصورة عامة ودخول الإنسان الى عصر جديد مسمى بالعصور الحديثة أو عصر الآلة والتي ساهمت بدورها الفاعل والمتميز في تطوير عجلة الحياة وظهور اقتصاد جديد يعتمد على استثمار المناجم والتنقيب عن المعادن ثم توالت الاستراتيجية العسكرية بأفكارها الملهمة لتصنع لنا كل هذا السلاح والآلية العسكرية المتطورة والمتفوقة التي شهدتها الحربان العالميتان الأولى والثانية وكان الفكر العسكري المتمثل في (الاستراتيجية) هو الذي يعنى بالتفكير والتخطيط والتطوير بنظم الحرب والقتال وبالتالي تنعكس هذه التطورات على أبعاد الحياة المختلفة الفكرية والمادية والإنمائية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وكل ما يتعلق بشؤون المجتمع الإنساني وتمضي الاستراتيجية العسكرية لتعطينا بعداً آخر في تطوير شؤون الحرب والقتال عند ظهور (السلاح الذري والنووي) والذي غير تماماً من معالم الخريطة الاستراتيجية السابقة وغدا الأمر يعتمد على عنصر العقل وإعادة النظرة الشاملة والفاحصة والدقيقة في كل ما يتعلق بشؤون الحرب والمفاهيم المتصلة بالسياسة والحرب وتقييم الأمر بصورة جديدة تتماشى مع ظهور هذا السلاح النوعي الخطير والذي يمثل نقطة تحول تاريخي وتغير نوعي لكل أبعاد الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية.. الخ.. ما أريد الإشارة إليه هنا.. هو الأمر الذي يتعلق بدور الاستراتيجية العسكرية والفكر العسكري القتالي في تطوير شؤون الحرب والقتال وذلك من خلال تنامي الأفكار التي تعطي أبعاداً من التطورات التي شهدناها في عالمنا اليوم، وفضل الاستراتيجية التي جعلت للحرب فكراً ومنهجية لها هدف تتحرك من أجله، وتتنافس هذه الأفكار التي خرجت من رحم الاستراتيجية العسكرية للمساهمة في تطوير شؤون الحرب والقتال ووصول الإنسان إلى ما تعارف عليه الآن بالحرب الحديثة
باحث فى العلوم السياسية والاستراتيجية
مستشار للمجلس العربى الافريقى
